### **ما وراء السطح: قراءة في رواية "الرحلة" وفلسفة الهروب إلى الذات**
في صخب الحياة المعاصرة، وضجيج المدن التي لا
تنام، وضغط الالتزامات المتراكمة، يبرز حلمٌ إنسانيٌ عالمي: حلم الهروب. تتخذ هذه
الرغبة أشكالاً متعددة؛ رحلة إلى شاطئ منعزل، أو عطلة في أحضان الطبيعة، أو مجرد
فرار مؤقت من ثقل الواقع.
![]() |
### **ما وراء السطح: قراءة في رواية "الرحلة" وفلسفة الهروب إلى الذات** |
- لكن ماذا لو كان هذا الهروب مجرد تغيير في الديكور لمسرحية داخلية لا تتوقف فصولها؟ ماذا لو
- كانت الحقائب التي نحملها إلى وجهاتنا الجديدة ليست أثقل من تلك الأعباء النفسية التي نحاول الفرار
- منها؟ هذه هي الإشكالية العميقة التي تغوص فيها الكاتبة إيفا ستامو في روايتها "الرحلة"، وهي ليست
- مجرد سرد لرحلة عادية، بل هي تشريح دقيق للنفس البشرية عبر استعارة بليغة وقوية: استعارة
- البحر بين سطحه الخادع وأعماقه الحقيقية.
#### **سيمفونية السطح وهم الخلاص المؤقت**
تبدأ الرواية، كما يبدأ أي حلم بالهروب، على
السطح. تقدم لنا ستامو مشهداً مألوفاً ومغرياً، مشهداً يمثل كل ما نتوق إليه عندما
نشعر بالاختناق. "الألعاب على سطح البحر هي دائمًا ممتعة للعقل والجسد".
هذه ليست مجرد جملة افتتاحية، بل هي بوابة لعالم من الحسية السطحية التي نلجأ
إليها كمسكنات. تصف الكاتبة ببراعة انعكاسات الضوء المتراقصة على صفحة الماء، كأنها
وعود براقة بحياة خالية من التعقيد. وتصور الأمواج المتهادية وهي "تقبل
الشاطئ ثم تنسحب"، في حركة أبدية من المد والجزر تشبه أنفاس الطبيعة الهادئة،
والتي نأمل أن تنعكس على أرواحنا المضطربة.
- هذا السطح هو مملكة الحواس؛ طعم الملوحة على الشفاه، وزبد البحر الذي يداعب الأقدام، والأسماك
- الصغيرة التي تطفو بلا مبالاة. كل هذه التفاصيل تشكل "مصدرًا لانهائيًا للمتعة" الظاهرية. من خلال
- هذه الصور، تبني ستامو المسرح الذي يهرب إليه بطلا الرواية، الرجل والمرأة. إنهما لا يهربان فقط
- من المدينة وأعبائها اليومية
بل يهربان إلى هذا الوهم، وهم أن السعادة تكمن في بساطة السطح، وأن تغيير المكان كفيل بمسح كل ما يعكر صفو الداخل. السطح هنا هو رمز للإنكار، للمحادثات المؤجلة، للمشاعر المكبوتة، وللعلاقات التي تكتفي بالمجاملات وتتجنب المواجهة. إنه المكان الذي يمكن فيه للمرء أن يخدع نفسه بأنه بخير، طالما أن الشمس مشرقة والمياه هادئة.
#### **نداء الأعماق الحقيقة الموحشة والساحرة**
ولكن، وكما تعلم ستامو ويعلم كل من تأمل البحر
طويلاً، فإن حقيقته لا تكمن في سطحه المتلألئ. "بالرغم من هذا؛ هناك الأعماق
المظلمة المخيفة والساحرة في نفس الوقت". هنا، تنتقل الرواية من الوصف الحسي
إلى التحليل النفسي العميق. الأعماق هي استعارة لكل ما هو دفين وغير مرئي: اللاوعي،
الذكريات المؤلمة، الرغبات الحقيقية التي نخجل من الاعتراف بها، المخاوف الوجودية،
وجذور الصراعات التي تشكل هويتنا.
- الأعماق "مخيفة" لأنها مجهولة. الغوص فيها يتطلب شجاعة لمواجهة ما قد نكتشفه عن أنفسنا وعن
- علاقاتنا. إنها رحلة محفوفة بالمخاطر، حيث لا توجد ضمانات للراحة، بل هناك احتمالية كبيرة للألم
- والاضطراب.
لكنها
في الوقت ذاته "ساحرة"، لأنها "مليئة بالأسرار والوعود والهدايا
لكل من يقرر سبر أغوارها". الهدية الكبرى التي تعد بها هذه الأعماق ليست
السعادة السطحية، بل هي المعرفة، والنشوة، والإكتشاف الحقيقي للذات. إنها فرصة
لرؤية "درجات ألوان الأعماق"، تلك الألوان التي لا يمكن رؤيتها تحت ضوء
الشمس المباشر، بل في ظلمة التأمل الصادق. "هناك تقف الطبيعة الحقيقية للمحيط"،
وهناك تكمن الطبيعة الحقيقية للإنسان.
- تطرح الرواية سؤالاً وجودياً مباشراً على لسان الراوي، وهو سؤال موجه للشخصيات وللقارئ على
- حد سواء: "أتريد أن تبقى فقط على السطح؟". إنها دعوة لتجاوز الخوف الأولي من الغوص. فمن
- يختار البقاء على السطح، لا يسعه إلا أن يحظى برحلة "سعيدة على السطح الضحل"، وهي سعادة
- مؤقتة وهشة، أشبه بقلعة رملية سرعان ما تمحوها موجة عاتية.
#### **معضلة الشخصيات هل يمكن الهروب من الذات؟**
عندما يقرر الرجل والمرأة في الرواية الهروب من
أعبائهما، فإنهما يحملان معهما أثقالهما الداخلية دون أن يدركا. البيئة الجديدة،
بكل هدوئها الظاهري، تعمل كمكبر صوت لصراعاتهما الدفينة. غياب المشتتات الخارجية (العمل،
الأصدقاء، الروتين) يجبرهما على مواجهة بعضهما البعض، والأهم من ذلك، مواجهة
نفسيهما. هل سيستطيعان أن يهربا من أنفسهما؟ الإجابة التي تومئ إليها الرواية هي "لا"
قاطعة.
تصبح هذه الرحلة الجغرافية هي المحفز لرحلة
نفسية إلزامية. كل حوار صامت، وكل نظرة مشحونة، وكل لحظة من الصمت المطبق بينهما،
هي بمثابة تيار خفي يسحبهما نحو الأعماق. هنا، تتجلى محاور الرواية الأساسية:
1. **الرغبة (Desire):** لم
تعد الرغبة مجرد انجذاب جسدي، بل تتكشف عن طبقات أعمق. ما الذي يرغبان فيه حقًا؟
هل هو الحب، أم الأمان، أم التحرر من الآخر، أم فهم الذات؟ الأعماق تجبرهما على
طرح هذه الأسئلة.
2. **هواجس
العقل (Obsessions of the Mind):**
في عزلة الشاطئ، تجد الهواجس والشكوك والغيرة أرضاً خصبة
للنمو. العقل الذي لا يجد ما يشغله في الخارج، يبدأ في التهام نفسه من الداخل،
مستحضراً كل الأشباح القديمة والجديدة.
3. **دورات
العاطفة (Cycles of Emotion):**
العلاقة بينهما، التي ربما كانت مستقرة ظاهريًا في
حياتهما اليومية، تدخل في دوامات عنيفة من القرب والبعد، الحب والكراهية، الأمل
واليأس. هذه الدورات هي الأمواج الحقيقية التي يجب عليهما تعلم السباحة فيها، لا
أمواج البحر الهادئة.
#### **فن خداع الذات المهارة الإنسانية الأعظم**
لعل أعمق ما تطرحه الرواية هو فكرة أن "إتقان
الإنسان الأكبر هو خداع نفسه". إن البقاء على السطح ليس مجرد خيار سلبي، بل
هو عملية نشطة من بناء الأوهام. يخدع البطلان أنفسهما بأنهما في رحلة رومانسية
لتجديد حبهما، بينما هما في الحقيقة يمارسان ритуаلاً
متقناً لتجنب الحقيقة. يخدعان أنفسهما بأن المشكلة تكمن في "المدينة" أو
"العمل"، بينما المشكلة الحقيقية كامنة في المسافة التي تفصل روحيهما.
- هذا الخداع هو آلية دفاعية تحمي الأنا الهشة من مواجهة فشلها أو عجزها. ولكن كما تكشف "الرحلة"
- فإن هذا الخداع هو الذي يمنع النمو الحقيقي والإدراك الذاتي. إن الشفاء، أو الخلاص الحقيقي، لا يبدأ
- إلا عندما ينهار هذا الفن، عندما يعترف المرء بأنه يغرق، ويقرر أن يتعلم السباحة في أعماقه بدلاً من
- التشبث بقشة السطح.
في الختام
تتجاوز رواية "الرحلة" لإيفا ستامو كونها مجرد قصة عن عطلة زوجين لتصبح تأملاً فلسفياً عميقاً في الحالة الإنسانية. إنها تعلمنا أن كل محاولات الهروب إلى الخارج هي في النهاية رحلات دائرية تعيدنا إلى نقطة البداية: أنفسنا. السفر الحقيقي ليس بقطع الأميال على الخريطة، بل بالغوص في تلك المسافة القصيرة واللانهائية بين ما نظهره للعالم وما نخبئه في أعماقنا.
إنها رواية تدعونا إلى الشجاعة، لا لركوب الأمواج، بل لمواجهة
الوحوش والكنوز الكامنة في محيطاتنا الداخلية، ففي تلك المواجهة وحدها يكمن
الإدراك، وفي الإدراك تكمن الحرية الحقيقية.